فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ}.
في هذا الحرف أربع قراءات سبعية: قرأه عاصم وحده: تظاهرون بضم التاء وتخفيف الظاء بعدها ألف فهاء مكسورة مخففة، وقرأه حمزة والكسائي: تظاهرون بفتح التاء بعدها ظاء مفتوحة مخففة، فألف فهاء مفتوحة مخففة، وقرأه ابن عامر: تظهرون وحده كقراءة حمزة والكسائي: إلا أن ابن عامر يشدد الظاء، وهما يخففانها، وقرأه نافع وابن كثير، وأبو عمرو: تظهرون بفتح التاء بعدها ظاء فهاء مفتوحتان مشددتان بدون ألف، فقوله تعالى: {تظاهرون} على قراءة عاصم مضارع ظاهر بوزن فاعل، وعلى قراءة حمزة، والكسائي فهو مضارع تظاهر بوزن تفاعل حذفت فيه إحدى التاءين على حد قوله في الخلاصة:
وما بتاءين ابتدى قد يقصر ** فيه على تاكتبين العبر

فالأصل على قراءة الأخوين تتظاهرون، فحذفت إحدى التاءين وعلى قراءة ابن عامر، فهو مضارع تظاهر أيضًا، كقراءة حمزة والكسائي، إلا أن إحدى التاءين، أدغمت في الظاء، ولم يحذف وماضيه اظاهر كادارك، واثاقلتم، وادارأتم، بمعنى تدارك. إلخ.
وعلى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو فهو مضارع تظهر على وزن تفعل، وأصله تتظهرون بتاءين، فأدغمت إحدى التاءيت في الظاء، وماضيه: اظهر نحو اطيرنا وازينت بمعنى: تطيرنا، وتزينت، كما قدمنا إيضاحه في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {فَإذَا هيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفكُونَ} [الأعراف: 117] و[الشعراء: 45] فعلم مما ذكرنا أن قولهم ظاهر من امرأته، وتظاهر منها، وتظهر منها كلها بمعنى واحد، وهو أن يقول لها: أنت علي كظهر أمي، يعني أنها حرام عليه، وكانوا يطلقون بهذه الصيغة في الجاهلية.
وقد بين الله جل وعلا في قوله هنا: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ} أن من قال لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي: لا تكون أمًا له بذلك، ولم يزد هنا على ذلك، ولكنه جل وعلا أوضح هذا في سورة المجادلة، فبين أن أزواجهم اللائي ظاهروا منهم لسن أمهاتهم، وأن أمهاتهم هن النساء التي ودلنهم خاصة دون غيرهن، وأن قولهم: أنت عليَّ كظهر أمي منكر من القول وزور.
وقد بين الكفارة اللازمة في ذلك عند العود وذلك في قوله تعالى: {الَّذينَ يُظَاهرُونَ منكُمْ مّن نّسَآئهمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتهمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا وَإنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ والذين يُظَاهرُونَ من نّسَآئهمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْل أَن يَتَمَآسَّا ذَلكُمْ تُوعَظُونَ به والله بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ فَمَن لَّمْ يَجدْ فَصيَامُ شَهْرَيْن مُتَتَابعَيْن من قَبْل أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطعْ فَإطْعَامُ ستّينَ مسْكينًا ذَلكَ لتُؤْمنُوا بالله وَرَسُوله وَتلْكَ حُدُودُ الله وَللْكَافرينَ عَذَابٌ أَليمُ} [المجادلة: 24].
فقوله تعالى في آية الأحزاب هذه: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ} كقوله تعالى في سورة المجادلة: {الَّذينَ يُظَاهرُونَ منكُمْ مّن نّسَآئهمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتهمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2]، وقد رأيت ما في سورة المجادلة، من الزيادة والإيضاح لما تضمنته آية الأحزاب هذه.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى: قد علمت من القرآن أن الإقدام على الظهار من الزوجة حرام حرمة شديدة كما دل عليه قوله تعالى: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا} [المجادلة: 2] وقوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لرَجُلٍ مّن قَلْبَيْن في جَوْفه وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ} [الأحزاب: 4].
وأشار بقوله تعالى: {وَإنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] أن من صدر منه منكر الظهار وزوره، إن تاب إلى الله من ذلك توبة نصوحًا غفر له ذلك المنكر والزور، وعفا عنه، فسبحانه ما أكرمه، وما أحلمه.
المسألة الثانية: في بيان العود الذي رتب الله عليه الكفارة في قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْل أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] وإزالة إشكال في الآية.
اعلم أن هذه المسألة قد بيناها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وسنذكر هنا كلامنا المذكور فيه تتميمًا للفائدة.
ففي دفع إيهام الاضطراب ما نصه قوله تعالى: {والذين يُظَاهرُونَ من نّسَآئهمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْل أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3]. لا يخفى أن ترتيبه تعالى الكفارة بالعتق على الظهار والعود معًا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معًا. وقوله تعالى: {مّن قَبْل أَن يَتَمَآسَّا} صريح في أن التكفير يلزم كونه من قبل العود إلى المسيس.
اعلم أولًا: أن ما رجحه ابنحزم من قول داود الظاهري، وحكاه ابن عبد البَرَّ عن بكير بن الأشج، والفراء، وفرقة من أهل الكلام وقال به شعبة: من أن معنى {من أن معنى ثُمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا} هو عودهم إلى لفظ الظهار، فيكررونه مرة أخرى قول باطل، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار، هل كرر زوجها صيغة الظهار أو لا، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم مرارًا.
والتحقيق أن الكفارة ومنع الجماع قبلها، لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار، وما زعمه بعضهم أيضًا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: {والذين يُظَاهرُونَ من نّسَآئهمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْل أَن يَتَمَآسَّا} سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضًا لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب، إلا لدليل. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
كذاك تريب لإيجاب العمل ** بما له الرجحان مما يحتمل

وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم.
فنقول وبالله تعالى نستعين: معنى العود عند مالك فيه قولان، تؤولت المدونة على كل واحد منهما وكلاهما مرجح.
الأول: أنه العزم على الجماع فقط.
الثاني: أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معًا، وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية.
لأن المعنى حينئذ: والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعزمون على الجماع أو عليه مع الإمساك، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع، أو عليه مع الإمساك، وبين الإعتاق قبل المسيس.
وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة، وهو واقع في القرآن كقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ} [المائدة: 6] أي أردتم القيام إليها، وقوله تعالى: {فَإذَا قَرَأْتَ القرآن} [النحل: 98] أي أردت قراءته: {فاستعذ بالله} [النحل: 98] الآية.
ومعنى العود عند الشافعي: أن يمسكها بعد المظاهرة زمانًا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق، وعليه فلا إشكال في الآية أيضًان لأن إمساكه إياها الزمن المذكور، لا ينافي التكفير قبل المسيس، كما هو واضح.
ومعنى العود عند أحمد: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه. أما العزم فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به، وأما على القول بأنه الجماع.
فالجواب: أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه. الكف عن المسيس مرة أخرى، حتى يكفر، ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير، لأن الآية على هذا القول، إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير، وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر، وأما الإقدام على المسيس الأول، فحرمته معلومة من عموم قوله تعالى: {مّن قَبْل أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3]. وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء، قائلًا: إن المراد بالمسيس في قوله: {مّن قَبْل أَن يَتَمَآسَّا} نفس الجماع لا مقدماته، وممن قال بذلك: الحسن البصري، والثوري، وروي عن الشافعي في أحد القولين.
وقال بعض العلماء اللام في قوله: لما قالوا بمعنى في أي يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «الواهب العائد في هبته» الحديث. وقيل اللام بمعنى: عن: أي يعودون عما قالوا: أي يرجعون عنه، وهو قريب مما قبله.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن العود له مبدأ ومنتهى، فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل، فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء، ومن وطئ بالفعل تحتم في حقه اللزوم، وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير.
ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: لما قال: «إذا التقا المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» وقالوا: يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» فبين أن العزم على الفعل عمل يؤخذ به الإنسان.
فإن قيل: ظاهر الآية المتبادر، منها يوافق قول الظاهرية الذي قدمنا بطلانه، لأن الظاهر المتبادر من قوله: لما قالوا أنه صيغة الظهار، فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى.
فالجواب: أن المعنى: لما قالوا أنه حرام عليهم، وهو الجماع، ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن في قوله تعالى: {وَنَرثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] أي ما يقول إنه يؤتاه من مال وولد في قوله: {لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]، وما ذكرنا من أن جامع قبل التكفير، يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى، حتى يكفر، هو التحقيق خلافًا لمن قال: تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس كما روي عن الزهرين وسعيد بن جبير، وأبي يوسف، ولمن قال: تلزم به كفارتان كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وذكره بعضهم عن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن مهدي. ولمن قال تلزمه ثلاث كفارات، كما رواه سعيد بن منصور، عن الحسن، وإبراهيم. والعلم عند الله تعالى. انتهى بطوله من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
المسألة الثالثة: أظهر قولي أهل العلم عندي أنه لو قال لها: أنت عليَّ كظهر ابنتي، أو أختي، أو جدتي، أو عمتي أو أمي من الرضاع، أو أختي من الرضاع أو شبهها بعضو آخر غير الظهر، كأن يقول: أنت عليَّ كرأس ابنتي أو أختي إلخ، أو كبطن من ذكر، أو فرجها، أو فخذها أن ذلك كله ظهار، إذ لا فرق في المعنى بينه، وبين أنت عليَّ كظهر أمي، لأنه في جميع ذلك شبه امرأته بمن هي في تأبيد الحرمة كأمه، فمعنى الظهار محقق الحصول في ذلك.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: الحسن، وعطاء، وجابر بن زيد، والشعبي، والنخعي، والزهري، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وهو جديد قولي الشافعي. وقال في القديم: لا يكون الظهار إلا بأم أو جدة لأنها أم أيضًا، لأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالأم، فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه، ولنا أنهن محرمات بالقرابة، فأشبهن الأم، فأما الآية فقد قال فيها: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا} [المجادلة: 2] وهذا موجود في مسألتنا، فجرى مجراه، وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها إذا كانت مثلها.
الضرب الثالث: أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب، كالأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة، وحلائل الآباء، والأبناء، وأمهات النساء، والربائب اللاتي دخل بأمهن فهو ظهار أيضًا، والخلاف فيها كالتي قبلها، ووجه المذهبين ما تقدم، ويزيد في الأمهات المرضعات دخولها في عموم الأمهات فتكون داخلة في النص، وسائرهن في معناها، فثبت فيهن حكمها. انتهى من المغني. وهو واضح كما ترى.
فرعان يتعلقان بهذه المسألة:
الأول: اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا شبه امرأته بظهر من تحرم عليه تحريمًا موقتًا، كأخت امرأته، وعمتها وكالأجنبية، فقال بعض أهل العلم: هو ظهار وهو قول أصحاب مالك، وهو عندهم من نوع الكناية الظاهره، وهو إحدى الروايتين، عن أحمد واختارها الخرقي، والرواية الأخرى عن أحمد: أنه ليس بظهار، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
وحجة القول الأول: إنه شبه امرأته بمحرمة، فأشبه ما لو شبهها بالأم، لاشتراك الجميع في التحريم، لأن مجرد قوله: أنت علي حرام، إذا نوى به بالظهار، يكون ظهارًا على الأظهر. والتشبيه بالمحرمة تحريم، فيكون ظهارًا.
وحجة القول الثاني: أن التي شبه بها امرأته، ليست محرمة على التأبيد، فلا يكون لها حكم ظهر الأم إلا إن كان تحريمها مؤبدًا كالأم، ولما كان تحريمها غير مؤبد كان التشبيه بها ليس بظهار كما لو شبهها بظهر حائض، أو محرمة من نسائه، وأجاب المخالفون عن هذا: بأن مجرد التشبيه بالمحرمة يكفي في الظهار لدخوله في عموم قوله: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا} [المجادلة: 2]، قالوا: وأما الحائض، فيباح الاستمتاع بها في غير الفرج، والمحرمة يحل له النظر إليها ولمسها من غير شهوة، وليس في وطء واحدة منهما حد بخلاف مستألتنا. انتهى من المغني مع تصرف يسير لا يخل بالمعنى.
وقال صاحب المغني: واختار أبو بكر: أن الظهار لا يكون إلا من ذوات المحرم من النساء، قال: فبهذا أقول.
وقال بعض العلماء: إن شبه امرأته بظهر الأجنبية، كان طلاقًا. قاله بعض المالكية. اهـ.